حمزة عليان:
جمعية الصداقة الكويتية الإنسانية تعيد لي وجه الكويت في الخمسينيات والستينيات، ففي كل سنة تجمع عددا من الوافدين وتقيم لهم احتفالاً لتقول لهم كلمة طبية، نحن نقدركم ونثمن جهودكم، وهذا ملمح إنساني رائع. أصدقاء لي قدّمتهم إلى الزميل أحمد الصراف بحكم رئاسته للجمعية أتذكر منهم جورج مجاعص، الذي توفاه الله، بعد تكريمه والصديقين اللذين تربطني بهما علاقة ممتدة إلى أكثر من ثلاثين سنة، وهما الفنان التشكيلي أمين محفوظ، والأب الروحي للمكتبة المركزية «وشيخ المفهرسين» عبدالرحمن التلالوة. كانت فرحتهما لا توصف أن تبادر جمعية أهلية كويتية بتكريمها، سألت العم أمين، متى جئت إلى الكويت أول مرة؟ قال: «وصلت بعد الاستقلال عام 1961، وعملت مباشرة في التلفزيون، وكان بإدارة خالد المسعود، والمقر كان في شبرة متواضعة جنب قصر دسمان، والسفارة الأميركية بدون سور، حيث كنا نسبح في بلاجها». هذا الوافد سيرته عطرة وعطاؤه متواصل بعد أن قفز عمره إلى ما بعد التسعين عاماً في مجال الرسم والتشكيل الفني، أما الأخ عبدالرحمن التلالوة (أبو يوسف) فله حكاية مماثلة بقوله: «دخلت الكويت يوم العاشر من أبريل عام 1961، والتحقت بعدها كطباع وعينت في المكتبة الوطنية، وكانت في شارع عمان، سكة عنزة، وشوارع المنطقة ضيقة جداً، فيها مطبعة الحكومة في مكان يعرف ببيت البسام، نقلت المكتبة بعدها إلى بيت الغانم مقابل البنك المركزي نهاية الشارع الجديد». هؤلاء وأمثالهم لديهم معلومات وخبرات وحكايات عن المجتمع والبلد والأماكن لم تعد متوافرة اليوم، هذا الجيل مكسب للتاريخ الشفهي للكويت، حبذا لو بادر أحد من أصحاب البودكاست أو التلفزيون أو المؤسسات المعنية «بتفريغ» ما تحتفظ بها ذاكرتهم، فذلك صيد ثمين، يجب ألا يفوّت، وسيكون إضافة جديدة قد لا تتكرر، فتاريخ الكويت يقول إنها كانت الحديقة الخلفية للكفاءات العربية منذ الخمسينيات. هناك ارتباط بين استقطاب عدد كبير من أصحاب العقول والكفاءات العربية التي اختارت الكويت دون غيرها من بلدان الخليج العربي والتي أنعم الله عليها بالثروة النفطية وعوائدها المالية، وتمتعت بالاستقرار السياسي وعوامل جذب أخرى، وبين ما حدث في المحيط العربي من انقلابات عسكرية وغيرت في الأنظمة السياسية وخلافه، بدءا من نكبة 1948 في فلسطين، حيث خرج منها مجموعة من أصحاب الكفاءات والخبرات وجاؤوا إلى الكويت والكل يشهد على ذلك، وكذلك عندما أعلنت الوحدة بين سورية ومصر عام 1958 والتأميم الذي رافق قيام ثورة 1952 في مصر، ثم مع انتهاء العهد الملكي في العراق عام 1958 قبل أن تعرف البصرة وبغداد هجرة كويتية إليها، وإن كان لبنان حالة خاصة منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، لكن الهجرة إلى الكويت من اللبنانيين ارتفعت وزادت مع الحرب الأهلية عام 1975 وما تلاها من حروب وتدمير. ومع انتهاء عقد الأربعينيات كانت الكويت في سبيلها للدخول في مشروع نهضوي حديث، متزامنا مع رؤية حاكم يمتلك إرادة صلبة تجعل من هذه البلاد دولة رفاهية مرتكزة على توظيف واستثمار العائدات المالية للثروة النفطية، وتحتاج إلى الاستعانة بمهارات وعمالة وكفاءات تسهم في البناء والتعليم والصحة وغيرها من القطاعات. عام 1953 ومع التقدم الذي أحرزته احتاجت إلى أعداد كبيرة من العمال، قامت بتشغيل 41 ألف عامل غير كويتي، في الخمسينيات أتاح مجلس المعارف الفرصة للمقيمين العرب أن يتعلموا بالمجان، وفتحت الكويت أبواب مدارسها ليلتحق بها أبناء الوافدين المقيمين على أرضها حيث بلغ عددهم عام 1965 نحو 25 ألف طالب وطالبة. وفي عام 1957 تمثل وجه الكويت في استقبال وتفضيل العمال والموظفين العرب على سواهم من الأجانب، فكانت الإعلانات عن الوظائف بصورة دائمة تجعل الأولوية للكويتيين ثم العرب بالدرجة الثانية، وهناك أسماء كثيرة في سجل من عاش واستقر في الكويت من قادة ومستشارين وخبراء وفنيين ورجال اقتصاد وتربية، هؤلاء وجدوا فيها حضنا دافئا وبلدا مضيفا وواحة من الاستقرار والحريات.