هبت ‘الجماهير’ العربية الغاضبة، وخرجت اصوات اخرى تنادي وتطالب بمقاطعة البضائع الاسرائيلية، كرد فعل على اعتداءات إسرائيل الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، والمجازر التي ارتكبتها بحق المواطنين والاطفال الابرياء.
ولم تتوقف الدعوة عند حدود مقاطعة البضائع الاسرائيلية، وان كنا لا نعلم مدى حجم هذه البضائع في السوق العربية، بل تعدت ذلك الى البضائع الاميركية، كعقاب لها على مواقفها المؤيدة لاسرائيل، وسياساتها الداعمة لحكومة باراكِِ ولغير ذلك من الاسباب المعروفة.
طبعا، فكرة المقاطعة، لم تكن الاولى من نوعها في الشارع العربي، ولن تكون الاخيرة، وان كانت تلك الدعوات لم تتعد اطار رفع الشعارات والتعبير عن الغضب الشارعي، التي سرعان ما تنطفئ وتعود المياه الى مجاريها.
ولا ندري، حقا، ماذا ستكون عليه الحال لو ان الانظمة العربية استجابت لتلك الدعوات، وقررت مقاطعة البضائع الاميركية التي تدخل في حياة المواطنين العرب من السيارة الى الغذاء والطيارةِِ المهم في الموضوع، هو فكرة المقاطعة ومدى الدور السياسي الذي تلعبه في حياة الامم والشعوب في معاركها القومية والسيادية وكيفية استخدامها لتحقيق الاهداف المتوخاة منها.
على المستوى العربي الشعبي يعود تاريخ المقاطعة ضد اسرائيل والحركة الصهيونية الى سنة 1922 اثناء ثورة الشعب الفلسطيني ضد الانتداب البريطاني.
اما على المستوى الرسمي، فقد بدأت سنة 1945 عندما تبنت جامعة الدول العربية قرارات وتوصيات تطالب بضرورة المقاطعة الاقتصادية العربية للمستعمرات اليهوديةِ وفي سنة 1948، ومع نشوء كيان ‘دولة اسرائيل’ اخذت منحى آخر الى ان تم انشاء مكتب للمقاطعة في كل دولة عربية سنة 1950، واصبح لها جهاز رسمي يتولى المهام الموكولة اليه، وتتمثل بخطين متوازيين، الاول: مقاطعة مباشرة للعدو الاسرائيلي وعدم التعامل معه بأي شكل من الاشكال، والثاني: مقاطعة غير مباشرة للمتعاملين معه من شركات او دول.
الآن نحن في سنة 2000، اي ان عمر المقاطعة العربية لاسرائيل على مستوى الدول بلغ خمسين عاما، فماذا تحقق والى اين وصلت؟
وحسب التقارير الاقتصادية المنشورة، فقد وصلت خسائر الاقتصاد الاسرائيلي لغاية 1998 الى 87 مليار دولار، وهو رقم متواضع في حسابات الصادرات والدخل القومي لكل من البلدان العربية واسرائيل.
ومع ذلك، فقد اصابت هذا ‘المكتب’ نوع من الخمول والتلاشي مع هجمة السلام، وخيار السلام الذي ارتضته الانظمة العربية، وهذا ما جعل مكتب المقاطعة معلقا في الهواء دون اجتماعات تذكر منذ عام 1993، وتحديدا، بعد ابرام اتفاق اوسلو سيئ الذكر.
ليس ذلك فقط، بل ان بعض الدول العربية قام بتصفية ‘المكتب’، كما فعلت مصر منذ عام 1980، وكذلك الاردن الذي انهى رسميا جميع اوجه المقاطعة منذ عام 1998، وكذلك السلطة الفلسطينية التي وافقت على انهاء المقاطعة وابلغت ذلك في رسالة موجهة عام 1998 الى ميكي كافتور، الممثل التجاري للولايات المتحدة الاميركية حينذاك، على حد وصف تقرير اميركي نشرته مجلة الحوادث مؤخرا.
اما بلدان مجلس التعاون الخليجي، فقد اعلنت عدم التزامها بالمقاطعة من الدرجتين الثانية والثالثة، في حين انهت كل من سلطنة عمان وقطر تطبيق المقاطعة، بل واقامتا ترتيبات تجارية متبادلة مع اسرائيل.
واذا ما نظرنا الى البلدان الاخرى، فسنجد ان كلا من موريتانيا والمغرب وتونس، توقفت كليا عن تنفيذ المقاطعة، وحتى اليمن فقد تخلى عن تطبيق المقاطعة من الدرجتين الثانية والثالثة عام 1995، والجزائر تلتزم بالمقاطعة رسميا وليس عمليا.
اذن فإن النتيجة التي وصل اليها مكتب المقاطعة، والذي انشئ بقرار رسمي عربي يكاد يلفظ انفاسه، ولم يعد ذا شأن كما هو في السابق، بل على العكس من ذلك، فقد حل مكانه الترويج لمشاريع الشرق اوسطية ودخول اسرائيل الى المنطقة العربية كطرف فاعل يسعى لنيل حصته من الكعكة الواعدة والمنتظرة من قيام السلام!
نعيد القول، ان المقاطعة وجدت اساسا كوسيلة ضغط وحصار للكيان الاسرائيلي، باعتباره كيانا منبوذا ودخيلا على المنطقة العربية، ومحتلا لأراضينا ومعتديا على حقوقنا، لكن، بعد الدخول في معاهدات السلام واقامة السفارات والمكاتب التجارية في عدد من العواصم العربية، اصبح الحديث عنها يمثل ترفا فكريا اكثر مما هو حقيقة على ارض الواقعِ.
والمقاطعة الاقتصادية، كفكرة وكممارسة، ليست حكرا على العرب، فتاريخ العلاقات الدولية حافل بالأمثلة والشواهد، فاستخدام هذا السلاح في وجه الاعداء والخصوم تلجأ اليه الدول والشعب متى تعرضت مصالحها للخطر.
فالولايات المتحدة مثلا، اول من لجأ لهذا السلاح عندما استخدمته ضد الاستعمار البريطاني في القرن الثامن عشر وفي حرب الاستقلال، وهي من طبقه ضد الصين الشعبية وحظرت على المؤسسات والافراد الاميركيين التعامل معها، وهي من فرضت الحظر والمقاطعة على كوبا وما زالت، وهي من شهر المقاطعة التجارية بوجه السودان وايران وغيرهما من البلدان.