لم يكن غريبا ان يستخدم أحد أفراد الأسرة الحاكمة في قطر لغة ‘الهدايا’ كوسيلة للتخاطب مع صدام حسين، فهذا ‘التقليد’ ليس بجديد على المسرح السياسي العربي بشكل خاص، وليس بدخيل على العلاقات الدولية، بشكل عام، وان اكتسى في ديار العروبة معاني وأهدافا بغير مقاصدها العلنية.
ولم تكن مصادفة أن ‘يحط’ الشيخ حمد بن جبر بن علي آل ثاني بطائرته ‘الهدية’ في مطار بغداد في هذا الوقت، بعد ان تحولت ‘الرحلات الجوية’ لكسر الحصار المفروض على العراق الى ما يشبه سوق عكاظ أيام زمان، فكل يغني على ليلاه، منهم من أراد التعبير عن تضامنه مع معاناة الشعب من جراء العقوبات الدولية، ومنهم من ركب الموجة واستغلها لتسليف ‘القائد’ مواقف ظاهرها انساني لكنها في حقيقة الأمر ذات منافع شخصية.
فالتسابق المحموم على من ينال غنيمة أكبر من السوق العراقي الواعد اصبح مقياسا للتقرب من النظام الحاكم، ولسان حال الزاحفين نحو بغداد يلهج ببيت من الشعر العربي، ‘ان الهدايا على مقدار هاديها’.
ربما كان ‘صقر الخليج’ يتمتع بفراسة ‘رجل البيزنس’ ورؤيته، لما يحتاجه العراق في السنوات المقبلة، لذلك اختصر الطريق وذهب مباشرة الى ‘الرأس’ عله في ذلك ‘ينقض’ على غنيمته السياسية التي تتيح له توسيع نشاط شركته ويحقق مبتغاه من وراء إهداء طائرة بوينغ الى صدام حسين شخصيا وليس الى الشعب العراقي مثلا!.
على كل حال، يبقى موضوع ‘الهدية المناسبة’ هو ما يحتاج الى نوع من الايضاح، خصوصا إذا كان المهدى اليه من جنسية وحضارة مختلفة أو يشترك معه في الخصائص نفسها، فالصينيون مثلا يمقتون الساعات كهدايا، لأنها ترمز الى مرور الوقت، وبالتالي الى الموت، لذلك يفضلون الأقلام بدلا من الساعات نظرا لصعوبة طباعة أحرف لغتهمِ واليابانيون يحبذون الهدايا التي تحمل الرقم 2 لأنه يجلب لهم الحظ حسب اعتقادهم، والآسيويون يميلون الى اللونين الأحمر والاصفر، لأنهما فأل خير بالنسبة لهم.
ويبدو أن ‘الحالة العربية’ تسير بعكس السير بخلاف المتبع عند العديد من دول العالم، وربما كان ذلك عائدا إلى ان العقلية السائدة تتعامل مع الأموال العامة، وكأنها ملك شخصي للحاكم، يهبها لمن يشاء ويحجبها عمن يشاء ويتصرف فيها كما يشاء.
وإذا كانت ‘الهدايا’ بين الأفراد هي نوع من التواصل الانساني بين البشر، وان اختلفت بالاسلوب والنوعية، فإنها لا تخرج عن اهدافها النبيلة واحيانا ‘الشخصية’، لكن الحديث هنا عن ‘الهدايا’ ذات الوزن الثقيل والتي غالبا ما تقاس بمعايير المنفعة والمصلحة المباشرة وبما هي نوع من أنواع الرشوة السياسية.
فالمكسيكيون مثلا عانوا مطولا من نقص في طائرات الهليكوبتر التي تساعدهم في حملتهم ضد تجار المخدرات حيث أخفقوا مرارا في الحصول على ذلك النوع من الادارة الاميركية التي أرادت معاقبة المكسيك، وبعد مضي فترة من الزمن قام الجيش الاميركي بإهداء 73 طائرة هليكوبتر دفعة واحدة سرعان ما اكتشف الجيش المكسيكي ان تلك الطائرات تعود الى مخلفات الحرب الفيتنامية وغير صالحة للاستخدام، فما كان منهم إلا الرفض وإعادة الهدية لأصحابها.
ولم تؤد هدية الاميركيين الغرض منها وكسب التأييد السياسي المؤمل فارتدت الى أصحابها خائبة.
وفي الواقع المعاصر ولسنوات مضت دأب النظام الحاكم في العراق على اللجوء الى ‘الهدايا’، كنوع من أنواع المقايضة وشراء الذمم.
ففي عام 1990 أهدى صدام حسين رؤساء تحرير الصحف الحزبية في مصر سيارات مرسيدس فاخرة لمناسبة قيام مجلس التعاون العربي بين مصر والعراق والاردن واليمن، في محاولة منه لاسكات الصحافيين المشاغبين والتعامل معهم على قاعدة المثل الشائع ‘اطعم الفم تستح العين’، ثم أكمل نهجه هذا بتحويل شيك بمبلغ 50 مليون دولار للرئيس حسني مبارك وباسمه الشخصي مرفقا بعبارة نقلها الاستاذ احمد الجار الله في حديث الأفق المنشور في صحيفة السياسة عام 1997 ‘أردت لك أكثر من هذا المبلغ، لكن في قادم الأيام سأكون في وضع مريح وحقك علينا كبير’.
وبحسب الرواية تلك، قام الرئيس مبارك بتحويل الشيك الى الخزينة العامة للدولة.
ومن شدة ولع ‘قائد النصر’ بالهدايا وما تمثله من ضرورة! فقد خصص متحفا خاصا يضم في قاعاته السبع وطوابقه الثلاثة ‘الهدايا’ التي قدمها له مواطنون عراقيون وشخصيات اجنبية، مزينة بصوره وتماثيله وملابسه المدنية والعسكرية.
وما هو شائع في الأوساط الصحفية العربية حكاية الإهداءات التي خص بها صدام الصحافيين الاردنيين عندما أغدق عليهم من مكرمته الشخصية، سيارة ومنزلا لكل واحد منهم تقديرا لخدماتهم الجليلة’ ومكافأة لهم على مواقفهم تجاه العراقِ وهذه اللفتة ‘الكريمة!’ استهوت البعض من الصحافيين الاردنيين الذين استطابوا هدايا ‘القائد’ وجعلوها تأخذ طابع ‘الدفع النقدي’.
وطالما ان الحديث ينصب على ‘الهدايا’ كتعبير شائع عن الرشوة و’اخواتها’، فالتراث السياسي مليء بالحكايات عن هذه الظاهرة، ومن طرائف التاريخ كما تذكر الكاتبة الفت سعد في صحيفة النهار اللبنانية ‘وهي طرائف مضحكة ومبكية في آن واحد’، ان الخاقاني وزير الخليفة العباسي المقتدر كان يبيع الولايات لطالبي السلطة، ويقال انه ولى على الكوفة في يوم واحد، تسعة عشر واليا، وأخذ من كل منهم رشوة بحسب ما تيسر، حتى هجاه أحد معاصريه:
وزير لا يمل من الرقاعة
يولي ثم يعزل بعد ساعة
إذا أهل الرشى صاروا إليه
فأحظى القوم أكثرهم بضاعة
والعجيب في الأمر ان الرشوة، بحسب المشرعين والقانونيين الدوليين يعطونها اوصافا تتناقض مع معناها، فيقولون ان هناك رشوة ‘ايجابية’ وأخرى ‘سلبية’، مع ان الحديث الشريف يقول ‘الراشي والمرتشي كلاهما في النار’، سواء كانت الرشوة سلبية أم ايجابية.
حقيقة لا ندري، ما إذا كانت منظمة الشفافية الدولية، اضافت الى ‘مؤشرها’ ما يحصل في العراق ومحيطه الجغرافي، لقياس معدل الرشوة، بعد ان اصبحت تقليدا و’علامة تجارية’ يبز بها الآخرين، أم ان المنظمة تستبعد العراق باعتباره ما زال يخضع للحصار والعقوبات الدولية!.
—————
الهدايا’ تشكل 36 في المائة من الوسائل الحكومية لتمرير الصفقات في العالم
نشرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التابعة للأمم المتحدة دراسة مسحية تناولت أحوال الفساد السياسي وطرق الرشوة في العالم وأفردت بابا خاصا للأنواع والوسائل التي تلجأ اليها الحكومات لتمرير المشاريع والصفقات التي تعود الى الشركات التابعة لتلك الدولة وخلصت الى ان الهدايا والهبات استحوذت على نسبة 36 في المائة من تلك الوسائل:
1ـ وسائل الضغط السياسي والدبلوماسي 53 في المائة.
2ـ وسائل الضغط التجاري والتحكم بالأسعار 49 في المائة.
3ـ وسائل الضغط المالي (ضرائب ـ جمارك ـ اسعار) 45 في المائة
4ـ حجب المساعدات 36 في المائة.
5ـ الهدايا والهبات 36 في المائة
6ـ حجب صفقات السلاح 28 في المائة
7ـ حجب المساعدات التعليمية والبرامج العلمية 16 في المائة
8 ـ الضغط بالقوانين 23 في المائة.