حمزة عليان:
بعدما تجاوزت السبعين من عمري لم يفارقني السؤال، إلى من سأهدي مكتبتي وأعمالي التي جمعتها طوال أكثر من خمسين عاماً؟ أمس وبعد زيارة «متحف دار مريم» عثرت على الجواب.قضيت حوالي الساعتين بصحبة أصدقاء أفاضل، ولهم باع طويل في الثقافة والفن والكتابة في حضرة الرسام والخزَّاف والنحات الأستاذ سامي محمد وبدارته ورفقته، وبجولة عشنا فيها أوقاتاً من المتعة الروحانية والتي لا يعوضها شيء في هذه الدنيا إلا ما يشبهها، والأصدقاء هم: د. سليمان العسكري، والفنان عبدالوهاب العوضي، والروائي إبراهيم فرغلي، وصاحب فكرة الزيارة الصديق محمد المعتوق العسلاوي، والسيدتان المهتمتان بالفن والمعارض فائقة السيد وسهيلة النجدي.منذ اللحظة الأولى لدخولك دار مريم تشعر بهيبة المكان ذي الطوابق الثلاثة، وبعظمة هذا الرجل الذي كرّس حياته للنحت والفن والرسم، ربما كانت إحدى العلامات الفارقة التي لازمت أعماله ورحلته في النحت أنه هو من أبدع تمثالين رائعين، الأول للأمير الشيخ عبدالله السالم الصباح وهو جالس على كرسي الحكم ومنتصباً في باحة مبنى جريدة «الرأي العام»، والثاني للأمير الشيخ صباح السالم الصباح واقفاً محيياً الشعب بطلعته البهية.اختار «مريم» على اسم والدته، بعدما عانى المتاعب والصعوبات من جعله «متحفاً»، وكان هذا الاقتراح الذي سمعه من الشيخة حصة صباح السالم الصباح ذات مرة وهو يشكو لها من انسداد الأفق أمامه.ما فعله الأستاذ سامي محمد بشخصه وجهده وماله الخاص وبنائه هذا المتحف يضاهي عمل دولة وليس فرداً، فقد أنجز شراء قطعة الأرض والبناء وما يتطلبه من أعمال الديكور والهندسة وتوزيع المنحوتات والمقتنيات واللوحات خلال ثماني سنوات تقريباً، لكن الحلم رافقه منذ كان شاباً ويافعاً وعلى مقاعد الدراسة الجامعية، وهذا ما تراه عيناك عند رؤيتك للمقتنيات الخاصة التي يعرضها ويستمتع بشرحها والحديث عنها للزوار، إلى جانب أحد أبنائه الشاب محمد الذي ورث من والده شغف وحب المهنة.في الطابق الأول تتعرف على عالم النحات واللغة التي يستخدمها عندما يتفحص صخب الحركة والسكون والأحداث التي تتقاذف حياة الإنسان، لأنها كما يشير إليها في الكتيب الذي أهدانا إياه مع كتاب جامع لأعماله، «لغة ترصد الإشارات المقلقة، تحدق، دون خوف في وجه الاضطهاد رافضة المراوغة والهروب».تجربته في النحت لم تبتعد عن أولئك المعذبين المنفيين، الذين سحقتهم قوى افترست علم الإنسان بالسعادة، والفن عنده كقبضة التمرد والغضب تأكيد لصورة الإنسان كخالق للقيم ومعايش للحرية.يضم «دار مريم» حوالي ألف عمل موزع بين نحت وطباعة وخزف، هذا الإنتاج ثمرة عمل دؤوب، لإنسان كافح وحفر الصخر كما يقولون.تجربته بالنسبة لي أعطتني الحافز، وشجعتني على أن أبني وأعتمد على نفسي، لأنك إذا لم تفعل ذلك بنفسك فلن يأتي أحد بعدك ليقوم بتلك المهمة التي هي تجسيد لعطائك وحياتك. باع نحو ألفي عمل ليصل اليوم إلى مستوى يضاهي أكبر بيوتات الفنانين في العالم والذين تولت دولهم، أقصد الجهات الرسمية بالدولة التي ينتمون إليها، تحويل تلك البيوتات إلى متاحف.ما رأيناه في «متحف دار مريم» لم يكن فقط تجسيداً لتاريخ سامي محمد الفني، بل جزء من تاريخ الكويت الثقافي والفني، هناك تتبحر مع عالم السدو بكل أشكاله، كما هو الحال مع الرسومات واللوحات الفنية والصحراء الجميلة وكنوزها العامرة، والمقتنيات التي رافقته في كل مراحل حياته الدراسية والجامعية وصولاً إلى اليوم، بانوراما شاملة موثقة.من حي الصوابر بمنطقة شرق عام 1943 إلى منطقة السلام ونحن في عام 2025، حيث منزله يقابل المتحف، هناك تجد تاريخ رجل كافح وأعطى وبنى، فهنيئاً له وللكويت على ما قدمه من أعمال استوحاها من الطين وصخر البحر والبيئة التي انتسب لها. هؤلاء الأطباء ليس مدحاً بل لمست فيهم ذاك الرقي والإنسانية في التعامل كأطباء واختصاصيين لهم كل التقدير والمحبة، وهم الدكتور علي النقي والدكتور عبدالله الخرس والدكتورة منيرة المزيد والدكتور سامي الحلاج في مستوصفي السالمية وسلوى.